خط النار الساخن..

أنتجت أوروبا حضارة غير مسبوقة، قوانين وحريات وتقدم علمي فما من العصور السابقة لكن هذه السابقة التاريخية لم تمثل الحقوق الإنسانية إذ سريعا ما جيرت فكرها ومنتجها الصناعي العسكري والمدني إلى التوسع الجغرافي بالقوة، ووضع العالم تحت سلطة نهب الثروات وتحولها إلى سلع تتصارع عليها دولها في العالم المتخلف..
حاليًا، وبعد اتساع هذه الحضارة وتعميميها على قارات أخرى، جاء الشعور الباطن بأن مشروع الهيمنة خرجت من أيديهم لتحل قوتي الاتحاد السوفيتي وأمريكا سابقًا، مكان القارة التي أنهكتها الحربين الكونيتين. لكن الأمر خرج من هذه الدائرة إلى توسع الفتوحات الحضارية فجاءت القارات الكبرى لتوجد واقعًا آخر، أي التحول من المستورد من الغرب إلى تطوير أدوات أخرى بحضارة منافسة على السوق والنموذج السياسي والاجتماعي وهنا بدأت معالم جديدة تبرز بقارة آسيا تحديدًا لنجد القائد الياباني يدير معسكرًا ينمو فيه إنسان آخر بأدوات وكفاءات اختزلت الزمن بطفرة صناعية وتقنية هائلتين.
البحث عن الذات أصبح همًا أوروبيا، فهي ليست متجانسة الأعراق والتواريخ وإن صممت نموذجًا لوحدة يدور حولها الجدل بمن يتحمل المسؤوليات المادية في نهوض الدول الأقل نموًا ثم ماذا عن التبعية لأمريكا التي أصبحت ترى في حلفائها مجرد تاريخ بتآكل مع الزمن، وأن بيئة عملها في المستقبل البعيد تبدأ من آسيا ومحيطيها اللاتيني ودول أمريكا الشمالية. والدليل على هذا الافتراق حدث صغير ربما لم يلتفت إليه العديد من المراقبين حين كشفت استخبارات وأجهزة رصد بريطانيا وأمريكا المكالمات الدائرة بين منفذي إسقاط الطائرة المدنية الروسية، وإبلاغها للروس قبل العثور على الصندوق الأسود وما يحويه من أسرار. و بالتزامن جاءت تفجيرات باريس، وهي الملف الأهم دون أن نسمع أي رصد لمكالمات عناصر الإرهاب ممن عرفوا أسرار العمليات الفرنسية، وهو مالا يخفى عليهم و غيرهم لتبليغها الحليف الأوروبي الفرنسي ولكنهم جحدوها..!
الاستنتاج أن باريس لم تعد بنفس الحظيرة الأمريكية البريطانية، إذ أن تمرد مثقفيها من غزو الثقافة الأمريكية، والتي هي في الأصل ثقافة إنجليزية، لم يعد مستساغًا إلى جانب محاولة دفع أوروبا للاستقلال عن الحليف غير الموثوق عسكريًا واقتصاديًا. وهذا التمرد تراه واشنطن خروجًا غير مقبول. وتأتي حركات باريس بعقد صفقات تسلح وفتح أسواق جديدة تخصها وحدها، دافع لأن تقوم واشنطن بردعها وتأديبها، فكان الصمت عن إرهابيي باريس جزء من عمل بعيد المدى..
نموذج آخر هناك معركة سياسية وعسكرية تدور على الأرض العربية منذ أزمنة طويلة، وداعش آخر حلقات الصراع في المنطقة، لكن تصريح أحد القادة العسكريين الأمريكان: أن قول صدام حسين “سَتُبعث عليكم جهنم” لم نصدقه إلا حين عرفنا ما يحدث الآن من تعميم الإرهاب. لكن الخيوط المرتبطة ذهبت لما هو أكثر تعقيدًا. حيث أن أي حروب في العالم تحرك مصانع الأسلحة بمكاسب كبيرة، و أوروبا وأمريكا اعتادتا على هذه السياسات بإشعال الحروب، غير أن داعش خلقت حروبًا من أنواع أخرى مختلفة و بمفاهيم وصراعات تتناسب مع المرحلة الراهنة، إذ أن دخول القوة الروسية سوريا غير المفاهيم وأسرارها، بأن بدأت تكشف وجوه اللعبة، فكل طرف لديه أوراق ضغط واستنزاف للآخر ماديًا وعسكريًا وسياسيًا. وهنا بدأت المنطقة تأخذ بعدها الأخطر، فتوازن القوى بين الخصوم ليس وحده السبب، وإنما هناك دائرة ضبابية قد تجبر أي منهم كشف ما يدور خلف الغرف المغلقة لاستحالة التجانس والتوافق بينهم وفقًا لمحاولة احتكار الهيمنة لصالح طرف أو تحالف ما إقليمي وعربي..
لماذا منطقتنا الخيار الدائم للتوتر وديمومة الصراع؟ ذلك له مبررات تاريخية وأطماع مختلفة اقتصادية واستراتيجية، إلا أن حالة داعش وإن كان الهدف من إيجادها ضرب الإسلام بالإسلام لتفتيت المنطقة وهدم جدار دين يرون فيه منطلق الصراع الحضاري القائم مع الغرب بمؤسساته و ثقافته وأفكاره. إلا أن تلازم الأمن بالمنطقة فرض وجوده على الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي فتح نافذه الرعب الجديد بإخراج العفريت من قمقمه ، فَجَّر حالة خوف لم تكن متوقعه من صانعي داعش بما في ذلك تغير مصطلح الحاجة القصوى للحلفاء الغربيين في العديد من الصفقات التجارية والعسكرية بدول المنطقة..
لكي تكمل حلقات توسيع دائرة الحروب وجعلها هدفًا طويل المدى، جاء الالتفاف على خلق حرب نفسية يدعمها إعلام متكيف على هندسة هذه الحرب وإشاعتها بأساليب في غاية الخبث السياسي، فكان لابد من طرح المملكة العربية السعودية هدفًا لوضعها على خط النار، فأخذت وسائل الإعلام البريطانية دور البادئ والمنظم للعملية وقيادتها، وهي الخبيرة في مثل هذه الحروب فبدأت ترسم خطًا للدعاية بأن في السعودية تدور خلافات بين الأسرة المالكة وأنها على شفا الإفلاس بسبب نزول أسعار النفط والسحب من أرصدتها، والتورط في حرب اليمن ثم الأهم أنها راعية الإرهاب في العالم ليأخذ الإعلام الأمريكي نفس الدور وبتنسيق مسبق ولكن بلغة تلتقي مع نفس الأفكار والتي طرحتها لندن وبدائرة أوسع وأكبر. ثم جاءت ألمانيا، وهي في العادة متحفظة على ما تقول أو تصرح به، لتسير على نفس الخط باتهام المملكة بذات الأفكار، والنتيجة الحقيقية تذهب بنا إلى سبب أكبر وأهم..
فهناك صفقات تجارية وعسكرية وتناغم سياسي مع فرنسا، وتقارب مع روسيا ورفض لإملاءات تلك الدول مما دفعها إلى ممارسة ضغوط تلتقي مع أهدافها. لكن الوعي بالأسباب والمسببات وإدارة المملكة شؤونها باستقلالية قرارها ورفض سلوك التبعية القديمة جعل النتائج تلتقي مع الأسباب في ممارسة سياسة ترويج الإشاعات وطبعها بصور الحقيقة المغلفة بالموضوعية، وهي ذات الأساليب التي عايشناها في كل الأزمنة لكن الظروف تغيرت لأن عالم جديد يُصاغ ويبرر تلك الأكاذيب نمو وعي وطني يدرك الأهداف والأبعاد التي تحاك ضد وطنه..