صنعتم العفريت .. وعجزتم تكتيفه..!

يتجدد بين حين وآخر الحديث عن (سايكس-بيكو) جديدة في المنطقة، وأن واقع التقسيم القائم في العراق وسوريا وليبيا يفرض وجود كيانات بجغرافية دول. وهنا يأتي سؤال: هل تقبل الدول التي تعد هذه الخرائط بدولة لداعش على حدود العراق وسوريا مقابل دولة شيعية في الجنوب وسنية في الوسط وكردية في الشمال العراقي ليقع نفس التقسيم على سوريا وليبيا..؟
مقابل هذا يأتي الترويج لوقف هذه الحروب، ليس بدافع إنساني، وإنما تفسير آخر يفرض وقف مشاريع لعبة الأمم، والشرق الأوسط الجديد، ووقف إطلاله سايكس-بيكو المستوردة، والأسباب أن إسرائيل حاليا لا يوجد من يهدد بقائها، لا من قوى عربية ولا إقليمية وبالتالي فمثل هذا الواقع حُسِم لصالحها. وطرأ تحول آخر أن تدويل حروب المنطقة من خلال جيوش أو مليشيات أو مرتزقة بدأ يأخذ طابع الخطر على العالم بأسره. وخصوصا من يحركون خيوط اللعبة وأحجار الشطرنج خاصة وأن التهديد بدأ يصعد لكل الآفاق وتجاوز الحدود. تماما مثلما كان الإتحاد السوفيتي يذهب لما هو أبعد في صراعه الإديولوجي مع الغرب عندما وظف (بادرمانهوف) أو الجيش الأحمر الألماني. والذي قام بنسف السفارة الأمريكية في بون، وأغتيال قاده عسكريين في الناتو متحالفًا مع الجبهة الشعبية الفلسطينية والجيش الإيرلندي. كذلك الألوية الحمراء المنظمة اليسارية الإيطالية التي اختطفت رئيس وزرائها (ألدو مورو) وقتله إلى جانب تحالفها مع منظمات دولية وعربية..
أما الجيش الأحمر الياباني فهو ينتمي إلى نفس الفصائل الشيوعية المتطرفة، وقد قام بالعديد من العمليات، مثل خطف الطائرات، والاعتداء على سفارات. لكن كان أخطر ما نفذه عملية مهاجمة مطار اللد بفلسطين المحتلة، حيث قتل وأصاب ما يزيد عن (١١٠) من جنود إسرائيل وحرق عدة طائرات مع قتل عناصر القائمين بهذه العملية..
النماذج الماضية كانت تحركها قوة السوفيت العظمى آنذاك. وقد اختارت أن ترفع شعار مقاومة الإمبريالية وإسرائيل متخذة من شعار عملياتها قضية فلسطين كهدف. والأرض العربية مركز الإنطلاق والحركة. وبالتالي فإن من أنشأ قوة تطرف من اليساريين يأتينا بالمقابل من لَبس عباءة الإخوان المسلمين التي ولًّدت جماعة التكفير والهجرة، أو ما انتشر من منظمات إرهابية أخرى من خلال القاعدة لتصبح المنطقة العربية محور كل العمليات. ومثلما خلق السوفيت الإرهاب اليساري، جاءت أمريكا وحلفاءها بتغذية وولادة الإرهاب الإسلامي الجديد. ولعل من يقرأ كتاب المؤلف والصحفي الأمريكي (روبرت دريفوس) “لعبة الشيطان” يفهم كيف بدأت المخططات وأدواتها وتوزيع أدوارها لكن السحر عاد الساحر، فقد صُنع العفريت وعًجز عن تكتيفه. فأصبح المجندون المنخرطون في عمليات داعش ينتمون للعديد من الجنسيات وبدوافع تختلف مضامينها وأهدافها، لكنها تعتبر العالم كله هدف لها والتركيز على الغرب وأمريكا. ومع ذلك لم نلحظ أو نرى استهداف دول آسيوية مثل الصين أو اليابان أو كوريا الجنوبية، بإعتبارها لم تكن يومًا عدوًا يفجر المنطقة بمناسبة أو غير مناسبة. وهذا التطور لا نجزم أو ننفي أنه أحد الاتجاهات بإغلاق الصراعات بالمنطقة ولكن سؤال يحتاج لأجوبة عديدة يدور في الدوائر التي ترتطم سياسيًا وأيديولوجيًا مع العرب. هنا هل يمكن كف اليد عنّا ونهاية القضايا المعقدة أم أنها استراحة تتبعها رياح عاصفة؟

يمن مستقر.. كيف؟.. ولماذا؟!

ما بعد هدوء العاصفة، كيف سنرى مستقبل اليمن؟ وما هي الأولويات وما بعدها؟ وكيف يتحقق سلام اجتماعي تندمج فيه القبائل والأحزاب وبقية المكونات الأخرى؟
في البداية لا بد من العودة في البند الأول ، أي حوار يمني مفتوح بين جميع الفصائل وبدون استثناء بما في ذلك الحوثيين في عملية ترعاها الأمم المتحدة وبمشاركة أساسية من قوى التحالف. وفي حال التوصل إلى إيجابيات ملزمة وغير قابلة للنقض، تبدأ إعادة النظر بالدستور ليتم ،بعد ذلك، انتخاب حكومة تتسع للجميع. على أن يراعى في صلبها حال التقاطع الجنوب مع الشمال والخلافات التي تصاعدت منذ بدايات الوحدة وحتى اليوم، ثم تأسيس جيش وطني يجمع كل اليمنيين، وكذلك قوى أمنية تقوم على نفس الاتجاه..
تقوم دول مجلس التعاون بإنشاء صندوق إعمار للبنية التحتية الشاملة تشترك فيه دول خارجية وعربية أخرى من أجل إعمار مدنه وقراه ومناطقه المختلفة. وبإشراف دولي وخليجي حتى لا تذهب الأموال، كما حدث زمن علي صالح إلى خزائنه وخزائن أحسابه وجماعته. ولينشأ في ظل المشروع الكبير فتح مدارس متوسطة وثانوية ومعاهد عليا وجامعات تجمع بين الدراسة التقليدية والورش التدريبية لتهيئة الشباب من الجنسين ليكونوا قطاعًا مهنيًا وعلميًا عاليًا يتم توظيفهم في دول مجلس التعاون وغيرها كبديل للعمالة الأجنبية غير العربية إلى جانب رفع كفاءة العمل داخل اليمن نفسه..
تعزيز القطاعين الحكومي والأهلي بحيث تنشأ رأسمالية جديدة تكون أساسها الطبقة المتوسطة مع الدعوة لكل رجال الأعمال من أصول يمنية المساهمة، بشكل فعَّال، كَرد للجميل للوطن الأم في إعادة بناءه، وفي حال وصول اليمن إلى المستوى المطلوب دمجه في مجلس التعاون الخليجي عضوًا كامل الأهلية..
فتح باب القبول لأعداد من الطلبة في المعاهد والجامعات والكليات بما فيها العسكرية والتفاهم مع دول عربية وأجنبية للإبتعاث الخارجي وخاصة الدول التي لا تستطيع المساهمة ماديًا في إعمار اليمن..
منع أي دولة أجنبية التدخل في شؤونه الداخلية تحت أي ذريعة، مثل فتح مدارس دينية ومذهبية الهدف منها سياسي أو طائفي، أو بتهريب الأسلحة لتخريب بنية هذا البلد. كما حدث من قبل إيران والتلاعب بعقول الحوثيين وعلي صالح..
إعادة (الأمل) مشروع كبير جزء منه مرحلي وسريع وآخر على امتداد سنوات قادمة والقضية ليست مبادرة عاطفية. وإنما بناء وطن في خاصرة دول الجزيرة العربية كلها يستحيل تركه لتفاعلاته وتدخلات الدول الأخرى ليهدد أمن كل المنطقة..
وإذا كان هناك مبدأ خلق استقرار عام فإن جمع السلاح وشراؤه سواء من الألوبة الموجودة، أو المقتنيات بالبيوت كتقليد يمني خاص، فإن الدعوة لمثل هذا الموضوع قد لا يتحقق إلا بوجود دولة وجيش وقطاع أمني واستقرار سياسي واجتماعي، لأن العقود الخمسة الماضية شهدت الكثير من الحروب الأهلية وحالات التمرد والإنشقاقات المذهبية والتحالفات القبلية. وهذا لا يأتي بين يوم وليلة،وإنما بالتوازي مع العمل الملموس الذي يشهده المواطن ويجده من مكاسبه الوطنية. وهي المسؤولية الأولى على دول المجلس وغيرهم ممن يجدون بإستقرار اليمن موقفًا إنسانيًا وأمنيًا…

مراكز القوة.. ومواقع الضعف

قالوا أن أمريكا لا تحترم إلا خصومها الأقوياء، وأنها في عصر أوباما ترددت كثيرا بحسم أمور أمنية تهدد أمن حلفاءها في آسيا من قوة كوريا الشمالية، وأن دخول إيران على الخط وعبثها بأكثر من دولة عربية عزز احترام أمريكا لها سواء في مفاوضات على مشروعها النووي، أو إطلاق يدها شرطيا في المنطقة، ثم لاحقًا حليفًا بدرجة مفوضٍ عام لإكمال هيمنتها على الوطن العربي، أو على الأقل تخريبه حتى لا يكون قوة إقليمية موازية لها ولإسرائيل وتركيا..
على وجه مغاير، المملكة ظلت حليفا للغرب وأمريكا بشكل خاص ولم تكن عدوا ولكنها في كثير من الظروف لا تتطابق سياسية البلدين. فقد فاجأت الحليف بحظر النفط مرتين، عام ١٩٥٦م و ١٩٧٣م وهو ما يغاير سياستها وأهدافها ثم جاءت وقفتها مع مصر ضد نظام مرسي ماديًا وسياسيًا، وحصلنا على صواريخ بالستية من الصين دون استشارة معها، وتشاركنا في أحداث تحرير الكويت ومكافحة الشيوعية، وعملنا على تهدئة أسواق النفط وهو ما يرضيها. وفي كل الأحوال، هل نحن خصوم محترمين؟ أم أصدقاء وحلفاء موثوقين؟..
هذه الرؤى تفرض أن نرى البُعد السياسي بين أي دولتين حتى لو تمايزت القوة بينهما لأن هناك مصالح تتأثر وتتغير تبعا لموقف كل بلد. ولذلك حين فاجأت عاصفة الحزم وبالتأكيد بالتنسيق مع كل الحلفاء بما فيها أمريكا، كَتب وتحدث كثيرون أن موقف المملكة غيَّر موازين القوى بالمنطقة كلها. ليس العسكرية بل السياسية وأنها عادت الهيبة للأمة العربية والعالم الإسلامي السني فكان تأثيرها على الدور الإيراني، سواء في مباحثات (٥+١) أو تضخيم قوتها العسكرية وأدوارها السياسية، باتت تضعها في واقعها الصحيح. لكن لماذا مع عاصفة الحزم وجدنا من يصرخ بلبنان وخاصة حسن نصرالله، فصار عروبيًا دون أن يفسخ جُبَّته الإيرانية، وهو يسمع أحد المسؤولين الإيرانيين يطالب العراقيين سلخ (دشاديشهم) المتخلفة ومعتبرًا بغداد عاصمة الدولة الفارسية!..
ميزة العاصفة أنها اقتلعت الغطاء الذي طالما تذرع به حزب الله كخط عربي في مواجهة إسرائيل واعتباره (الممانع والمقاوم). ثم جاء الإشكال من تتالي الضربات عليه داخل سوريا والدخول في مواجهة حادة مع فصائل لبنانية مؤثرة، وتزامن ذلك مع تسليم أول دفعة أسلحة فرنسية لتعزيز الجيش اللبناني من الهبة السعودية التي بلغت ثلاثة مليارات من الدولارات. وهذا كله سوف يضع حزب الله في حال ضعف بالداخل اللبناني إن لم يكن قطيعة معه، وتوالي نقص حاد في موارد إيران التي يتعمد عليها في أوضاعه المادية والعسكرية..
المملكة كما حاربت القاعدة واشتركت في التحالف الدولي ضد داعش السنيتين، نجدها تحارب فصيل الحوثيين وليس المذهب الزيدي الذي تعايشنا معه في تواريخ طويلة، وكان كل مواطن يمني يعمل في المملكة لا يُسأل عن مذهبه. بل كان من يُمنع دخوله عناصر يسارية وقومية فقط. ثم نسأل، لماذا تقف أمريكا مع التحالف الذي تقوده المملكة؟ هل نعتبرها لعبة السياسة كما يصورها البعض؟ أم تلاقي الأهداف العليا والتي ليست مجال امتحان و اختبارٍ للنوايا في ظروف كهذه؟..
قطعًا قد لا تتوافق السياسات في موقف ما، وتتلاقى أمام أخرى. وفي كل الظروف نعرف أن التفسير النهائي لمواقف المملكة ليست خصوماتها وتحالفاتها، وإنما قوتها الذاتية في العديد من المجالات التي وضعتها ركنًا لا هامشًا..

من جرائم الحرم … إلى تضاريس اليمن

يصعب البحث عن الفرقة الناجية في الأديان التوحيدية، وقد خاضت حروباً بينها و أفترقت إلى طوائف طحنتها الحروب حتى أن المسيحية تعد الأعنف في هذه الصدامات، لكن كتاب التاريخ و المتعاملين في تحليلاته يرون أن خلف كل حادثة مأساوية هدفٌ سياسي يتصارع عليه الأباطرة والأُمراء والكنائس الأوروبية، وحين النظر للدين هل هو سبب هذه الحروب وحالات التشرذم والانفصال، نجد إديولوجيات (شوفينية) و أممية أشعلت حروباً مماثلة وفق قوانين عنصرية أو حركة للتاريخ كما تزعم الشيوعية..

أستخدم الغزاة والمستعمرون في منطقتنا كل ما يقسّمها في خلق صراعتٍ قَبلية ومذهبية، أستطاعوا من خلالها رسم خرائط لخلق حروبٍ بالنيابة، وطنّوا اليهود ومنحوا مدناً وقطاعات جغرافية عربية لدولٍ إقليمية مجاورة، ونشأ في ظل الخلل الجغرافي وامتهان حقوق الشعوب طورٌ من النضال العربي ضد الاستعمار والتحرر منه، لكن ما جرى من تبريرات حول استنزاف مقدرات الدول العربية في سبيل التسلّح واستعادة فلسطين، كان الوهم الأكبر، لأن تلك الأسلحة عادت لتكون مصدراً لقتل أبناء الوطن الواحد، أو تغير نظام بآخر في الانقلابات التي حدثت، لدرجة أن يمن علي صالح الذي حول موارد بلده إلى سلاح والهدف غير معروف بمن على لائحة العداوات في جواره الجغرافي وخارجه سيحاربه، حتى أصبح فائض السلاح نقمة على هذا البلد والأمة  العربية إلّا قلة منها ..

الطائفية موجودة ومعترفٌ بها لكنها لم تصل إلى الطائفة السياسية إلا مع ثورة الخميني، حيث جعلت من العلويين وشيعة العراق والخليج العربي واليمن ولبنان ملاحق صغيرة تدور في فلكها، على الرغم من رواد وأبناء هذه الطائفة الذهاب إلى الأبعد في الانخراط في أحزابٍ شيوعية وقوميّة بعيدة عن تلك المسارات، بل ونجد شيعة العراق عصر صدام هم عناصر القوة في حربٍ عربية – فارسية، وشهد التاريخ العربي زعامات منهم كانوا في طليعة من نذر نفسه لعروبته ورفضه لأي مسبب يفتح الصراعات المذهبية..

نعود لأمرٍ هام وقرارٍ شجاع بكل ما تعنيه مراسم الحروب المدافعة عن حقها وحق غيرها، لماذا ذهب الملك سلمان لهذا القرار وفاجئ العالم كله بخيار الحرب ودون إبطاء وبعزيمة دولةٍ وشعب وغطاء عربي وإسلامي ودولي ؟..

السبب ليس حباً في الحرب كهدف، وإنما لإيقاف مدٍ إيراني بدأ بأحداث مكة المكرمة حين صادرت سلطات المملكة العشرات من الأطنان من المواد المتفجرة مع الحجاج الإيرانيين بقصد تفجير الحرم المكي والمشاعر المقدسة الأخرى لذبح مئات الآلاف من الحجاج، وإقامة المظاهرات والتصويت على الخميني إماماً للمسلمين .. إلى نهاية تلك المؤامرة القذرة، ثم جاء الدور على تطويق المملكة بكماشة شيعية تبدأ من العراق، فالبحرين، وسوريا ولبنان، ثم القفز على اليمن لتكون الطوق الآخر..

هنا كان لابد من كسر هذا المشروع وهذه المرّة بحزم السلاح لإنقاذ اليمن من مصادرة وجوده و تفتيت كيانه بواسطة أقلية حوثية، تم من خلالهم محاولة خلق حرب استنزاف على حدود المملكة الجنوبية، فكان القرار وواجباته أن توضع إيران في حجمها الطبيعي وبأنها ليس من يبادر باتخاذ القرار، بل من يستطيع أن يصنعه بقوة الحزم ويقتل مشاريعها العدوانية..

وجدت نفسي …

لما يقرب نصف قرن في رحلة القراءة والكتابة، والآراء المتضاربة، والاجتماعات الساخنة والباردة، ومطاردة الآراء و الأفكار، شعارات ثورية، يقابلها منطق (براجماتي) و أخر ليبرالي، وثالث دين وسطي، ومتطرف، عرفت صداقات وزملاء كل له بصمة خاصة في سلوكه وفكره، و لأن أجواء المنطقة العربية لم تبرد منذ نكبة فلسطين، إلى مذابح داعش، وأرومتها، كنت بين كل ذلك أحاول أن أكون موضوعيا فيما أكتب، أحلل ما أقراء على ضوء المنطق لا العاطفة، وهي مسافة معقدة لمن يريد أن يقنع الآخرين برأيه ووجهة نظرة ..

في الإجازة القصيرة في نهاية الأسبوع لا أستقر أتابع الأحداث وأنتظر المفاجآت سواء بقرارات وتغييرات داخلية، أو خارجية حتى أعاصر الموقف واكتب عنه، وفي الإجازات الطويلة والتي حاولت أن يصاحبني فيها كتاب فكاهي أو رواية للتسلية، كنت أبحث في كل سكن بفندق أو شقة محطات فضاء عربية لأكون في قلب ما يجري، وحتى متعة معالم المدينة والقرية والبحر بسطوع الشمس عليه، أو رؤية انحسارها للمغيب، كانت مجرد مناظر عابرة أو كأي صور أشاهدها في محطة فضائية، وحتى مراقبة من معي من عائلتي وأبنائي تحوّل الرابط في الخارج كما في الداخل، أي الركض خلف الأحداث والتحليلات السياسية وأمراضهما، ورغم شغفي بالمتاحف (و الفلكلور الشعبي) لأي بلد، فنصيبي منهما يأتي من سرقة بعض الوقت والخروج من أسوار السياسة وأقبيتها وقوالبها ..

لست متبلد الشعور تجاه مناظر رائعة أو سماع موسيقى أو رؤية للوحة فنان حتى لو كان ممن يرسمون على أرصفه الشوارع، أو من يبهرك في حركاته البهلوانية، في ترقيص دب أو قرد أو ثعبان كوبرا، وإنما لأن المشاعر القصرية المتجهة نحو بيئتك الكبيرة، هو سلم الصعود والهبوط في الآمال وحالات اليأس في مجريات الأحداث، ولأني لست صانع قرار فقد أصبت بمرض المشاهد والكاتب الذي فرض على نفسه أن يكون مثل قاضي الأحكام المستعجلة في شؤونٍ لن يغيّروا فيها أو يقلبوا أفلاكها، ولكنها المهنة المعقدة والصعبة والتي تجرك إلى شيخوخة العقل حين تُستلب بأفكارك وترى نفسك في حالة وحشةٍ دائمة أمام ما تقصر عليه إرادتك وقواك ..

في هذا المعترك من المراجعة اليومية للنفس، أتساءل ما فعلت، هل أخطأت أو اعتديت على حق إنسان أو دولة، أو عقيدة، وكيف تزن سلوكك بعد ما تجاوزت سن السبعين بأن حان الوقت لأن أرى الحياة بجمالياتها لا مظاهرها السوداء القاهرة، فكان الصراع هل أعتزل الكتابة وأتمتع بقراءة حرة فقط أم أنني أمام زواج (كاثوليكي) لا يقبل الطلاق بين القراءة والكتابة، وهو خيار له بعده الذاتي والنفسي، لأستمر مع صداقة إنسان لا يعرفني إلا بما أكتبه و أتواصل معه على خط الهموم الواحدة، وفي هذا الجدل أثرت أن أستريح من عناء الكتابة اليومية في موضوعات مستفزّة وجافة ومتقلبة، فوجدت نفسي أعود لحياتي الطبيعية، إنسان يشارك عائلته وأصدقاءه وأقاربه الروح العامة، و أن للحياة وجوه بسيطة غير مكفهره مثل وجوه من يصنعون السياسة ويتحكمون بها، وربما من المحتمل العودة للكتابة متى كان الظرف يستدعي ذلك ..