وجدت نفسي …

لما يقرب نصف قرن في رحلة القراءة والكتابة، والآراء المتضاربة، والاجتماعات الساخنة والباردة، ومطاردة الآراء و الأفكار، شعارات ثورية، يقابلها منطق (براجماتي) و أخر ليبرالي، وثالث دين وسطي، ومتطرف، عرفت صداقات وزملاء كل له بصمة خاصة في سلوكه وفكره، و لأن أجواء المنطقة العربية لم تبرد منذ نكبة فلسطين، إلى مذابح داعش، وأرومتها، كنت بين كل ذلك أحاول أن أكون موضوعيا فيما أكتب، أحلل ما أقراء على ضوء المنطق لا العاطفة، وهي مسافة معقدة لمن يريد أن يقنع الآخرين برأيه ووجهة نظرة ..

في الإجازة القصيرة في نهاية الأسبوع لا أستقر أتابع الأحداث وأنتظر المفاجآت سواء بقرارات وتغييرات داخلية، أو خارجية حتى أعاصر الموقف واكتب عنه، وفي الإجازات الطويلة والتي حاولت أن يصاحبني فيها كتاب فكاهي أو رواية للتسلية، كنت أبحث في كل سكن بفندق أو شقة محطات فضاء عربية لأكون في قلب ما يجري، وحتى متعة معالم المدينة والقرية والبحر بسطوع الشمس عليه، أو رؤية انحسارها للمغيب، كانت مجرد مناظر عابرة أو كأي صور أشاهدها في محطة فضائية، وحتى مراقبة من معي من عائلتي وأبنائي تحوّل الرابط في الخارج كما في الداخل، أي الركض خلف الأحداث والتحليلات السياسية وأمراضهما، ورغم شغفي بالمتاحف (و الفلكلور الشعبي) لأي بلد، فنصيبي منهما يأتي من سرقة بعض الوقت والخروج من أسوار السياسة وأقبيتها وقوالبها ..

لست متبلد الشعور تجاه مناظر رائعة أو سماع موسيقى أو رؤية للوحة فنان حتى لو كان ممن يرسمون على أرصفه الشوارع، أو من يبهرك في حركاته البهلوانية، في ترقيص دب أو قرد أو ثعبان كوبرا، وإنما لأن المشاعر القصرية المتجهة نحو بيئتك الكبيرة، هو سلم الصعود والهبوط في الآمال وحالات اليأس في مجريات الأحداث، ولأني لست صانع قرار فقد أصبت بمرض المشاهد والكاتب الذي فرض على نفسه أن يكون مثل قاضي الأحكام المستعجلة في شؤونٍ لن يغيّروا فيها أو يقلبوا أفلاكها، ولكنها المهنة المعقدة والصعبة والتي تجرك إلى شيخوخة العقل حين تُستلب بأفكارك وترى نفسك في حالة وحشةٍ دائمة أمام ما تقصر عليه إرادتك وقواك ..

في هذا المعترك من المراجعة اليومية للنفس، أتساءل ما فعلت، هل أخطأت أو اعتديت على حق إنسان أو دولة، أو عقيدة، وكيف تزن سلوكك بعد ما تجاوزت سن السبعين بأن حان الوقت لأن أرى الحياة بجمالياتها لا مظاهرها السوداء القاهرة، فكان الصراع هل أعتزل الكتابة وأتمتع بقراءة حرة فقط أم أنني أمام زواج (كاثوليكي) لا يقبل الطلاق بين القراءة والكتابة، وهو خيار له بعده الذاتي والنفسي، لأستمر مع صداقة إنسان لا يعرفني إلا بما أكتبه و أتواصل معه على خط الهموم الواحدة، وفي هذا الجدل أثرت أن أستريح من عناء الكتابة اليومية في موضوعات مستفزّة وجافة ومتقلبة، فوجدت نفسي أعود لحياتي الطبيعية، إنسان يشارك عائلته وأصدقاءه وأقاربه الروح العامة، و أن للحياة وجوه بسيطة غير مكفهره مثل وجوه من يصنعون السياسة ويتحكمون بها، وربما من المحتمل العودة للكتابة متى كان الظرف يستدعي ذلك ..

5 thoughts on “وجدت نفسي …”

  1. صحيفة الرياض موحشة بدونك اتمنى أن لا تنقطع عن الكتابة هناك من ينتظر حروفك وأيضاً يحبك

  2. كعادتك فقد إخترت الوقت المناسب لإتخاذ قرارك بالإبتعاد ، ولكنك ستظل في قلوب محبيك ومتابعيك مهما إبتعدت ، ستظل ذلك الرجل العطوف الحنون المحب لكل ما هو جميل . أتمنى لك حياة هادئه كهدوء شخصك .

  3. والدي الاستاذ / يوسف

    السلام عليكم

    انا حقيقة لا اعشق السياسة ولا الخوض فيها ابدا , الا انك اجبرتني باسلوبك السهل الذي يفك شفرات معقدة في قراءة مقالاتك اليومية بشغف.

    تأثرت كثيراً لخروجك من صحيفة الرياض ولكن سعدت اكثر بوجود مدونتك التي بالتأكيد ساحرص على قرائتها دوما والاستمتاع بالفائدة التي اختزلتها حروفك.

    تقبل مروري , واتمنى ان اجد طريقة للتواصل معك.

  4. أخي يوسف حفظك الله . وجدت نفسي . عنوان معبر بما فيه من صدق الكلمه وصدق الاحساس الشعور . اتمني لك التوفيق

التعليقات مغلقة.